العلماء يبرمجون «كريسبر» لمكافحة الفيروسات في الخلايا البشرية

يمكن استخدام أحد إنزيمات التعديل الجيني المعروفة لتعطيل فيروسات الحمض النووي الريبي، مثل الإنفلونزا، والإيبولا.

عادةً ما يُنظر إلى تقنية “كريسبر” على أنها أداة مختبرية لتعديل الحمض النووي بُغية إصلاح العيوب الجينية، أو تحسين بعض الصفات. إلا أن تلك الآلية قد تطورت في الأصل في البكتيريا، بوصفها وسيلةً لمكافحة الفيروسات المعروفة بالفيروسات البكتيرية. والآن، توصل العلماء إلى طريقة لمحاكاة تلك القدرة واستخدامها من أجل مكافحة الفيروسات في الخلايا البشرية.

في دراسة حديثة، استطاع كلٌّ من كاثرين فرايجي، وكاميرون ميرفولد، وبارديس سابيتي -من معهد برود التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة هارفارد- وزملاؤهم أن يبرمجوا إنزيمًا مرتبطًا بأداة كريسبر. وكان هذا بغرض استهداف ثلاثة فيروسات مختلفة ذات أحماض نووية ريبية أحادية السلسلة داخل خلايا جنينية لكُلى بشرية (وكذلك خلايا سرطانية لرئة بشرية، وخلايا كُلى كلب) جرت تنميتها في المختبر، وقطع تلك الفيروسات، ما جعلها عاجزةً -إلى حدٍّ كبير- عن إصابة خلايا أخرى. وبالتالي، في حال أثبتت تجارب أخرى نجاح هذه الآلية في الحيوانات الحية، فقد يؤدي بنا ذلك إلى اكتشاف علاجات جديدة مضادة للفيروسات لعلاج أمراض مثل الإيبولا وزيكا لدى البشر.

توجد الفيروسات في أشكال عدة، منها الحمض النووي، والحمض النووي الريبي، سواءٌ منهما ثنائي السلسلة أو أحادي السلسلة. هذا، وتمثل فيروسات الحمض النووي الريبي نحو ثُلثي الفيروسات التي تصيب البشر، وليس لكثيرٍ منها علاجٌ معتمد. وكثيرًا ما تعتمد العلاجات القائمة على جزيء صغير يتداخل لتعطيل تكاثر الفيروس، ولكن هذا المنهج لا ينجح مع الفيروسات التي تظهر حديثًا، أو تلك التي تتطور بسرعة.

تشير أداة “كريسبر” إلى سلسلة من تسلسلات الحمض النووي في الجينومات البكتيرية التي تخلَّفت عن إصابات سابقة بعدوى بكتيرية. فعندما تصادف البكتيريا هذه العوامل الـمُمْرِضة مرةً أخرى، تتعرف إنزيمات معروفة بالبروتينات المقترنة بكريسبر (كاس) على تلك التسلسلات في الفيروس، فتقترن بها وتدمرها. وفي السنوات الأخيرة، استطاع باحثون (من بينهم فنج زانج، المؤلف المشارك في هذه الدراسة) إعادة هندسة أحد تلك الإنزيمات، وهو Cas9، لقطع الحمض النووي ولصقه في الخلايا البشرية. يقترن الإنزيم بوسمٍ جينيٍّ قصير يُسمَّى دليل الحمض النووي الريبي، يتولى توجيه الإنزيم إلى جزءٍ مُعين من الجينوم لإحداث القطع. وكانت دراسات سابقة قد استُخدمت Cas9 لمنع تنسُّخ فيروسات الحمض النووي ثنائية السلسة، وفيروسات الحمض النووي الريبي أحادية السلسلة، التي تنتج الحمض النووي في خطوة وسيطة في أثناء النسخ. هذه الأحماض النووية الوسيطة لا تُنتج إلا عددًا قليلًا للغاية من فيروسات الحمض النووي الريبي التي تصيب البشر. ولكن، هناك إنزيم كريسبر آخر، يُطلق عليه Cas13، يمكن برمجته لشقِّ فيروسات الحمض النووي الريبي أحادية السلسة.

تقول كاثرين فرايجي، وهي طالبة دكتوراة بجامعة هارفارد متخصصة في علم الفيروسات: “الأمر الجيد في أنظمة كريسبر والأنظمة المشابهة لـCas13 هو أن غرضها الأصلي في البكتيريا كان الدفاع ضد العدوى الفيروسية للبكتيريا. وقد سعينا إلى إعادة Cas13  إلى وظيفته الأصلية، وتطبيق ذلك على فيروسات الثدييات في خلايا الثدييات. ولأن أنظمة كريسبر تعتمد على أدلة الحمض النووي الريبي لتوجيه بروتين كريسبر إلى هدفٍ محدد، فقد رأينا في ذلك فرصةً رائعةً لاستخدامها كمضادٍّ فيروسي قابل للبرمجة”.

قامت فرايجي وزملاؤها ببرمجة Cas13 لاستهداف ثلاثة فيروسات مختلفة، وهي: فيروس التهاب السحايا المشيمي اللمفاوي(LCMV) ، وفيروس الإنفلونزا A (IAV)، وفيروس التهاب الفم الحويصلي (VSV). أما فيروس التهاب السحايا المشيمي اللمفاوي، فهو فيروس حمض نووي ريبي يُصيب الفئران في الغالب، ولكنه من ذات عائلة الفيروس الذي يسبب حمى لاسا الموجودة في غرب أفريقيا، وتكتنف دراسته في المختبر مخاطر جمَّة. وأما فيروس الإنفلونزا A، فعلى الرغم من وجود بعض الأدوية المضادة للفيروسات الخاصة بالإنفلونزا بالفعل، فإنها تتطور بسرعة، وبالتالي فهناك حاجة إلى إيجاد خيارات علاجية أفضل. وأما فيروس التهاب الفم الحويصلي، فهو نموذج لعديدٍ من فيروسات الحمض النووي الريبي أحادية السلسة.

ولتحديد مدى فاعلية Cas13 في تدمير الفيروسات، فقد استخدمه الباحثون أيضًا بمنزلة أداة تشخيصية لمعرفة مقدار الحمض النووي الريبي الفيروسي الذي انطلق من الخلايا المصابة. وقد لاحظوا تراجُعًا يترواح من ضعفٍ إلى 44 ضعفًا في الحمض النووي الريبي، ذلك وفقًا للفيروس محل الدراسة واللحظة التي تم الرصد فيها. كذلك، راقب الباحثون مدى قدرة الحمض النووي الريبي الذي انطلق على الاستمرار وإصابة خلايا جديدة، ولاحظوا حدوث تراجُع بنسبة 100 ضِعف في قدرته على إحداث العدوى -ووصلت في بعض الحالات إلى 300 ضعف- وفقًا لفرايجي. وقد نُشرت النتائج على الإنترنت على الموقع الإلكتروني Molecular Cell، في 10 أكتوبر.

وقد علق تشن ليانغ -الأستاذ بمعهد ليدي ديفيز بالمستشفى العام اليهودي، وقسم الأحياء الدقيقة وعلم المناعة بجامعة ماكجيل في مونتريال، والذي لم يكن مشاركًا في الدراسة- قائلًا: “إن النتائج رائعة للغاية”. وقد استخدم مختبره إنزيم Cas9 لتثبيط فيروسات الحمض النووي. قال ليانغ إن الفكرة نفسها مشابهة للغاية، ولكن Cas13 له بعض المزايا، فمن ناحية، يمكن استخدامه لاستهداف فيروس يستخدم عددًا من أدلة الحمض النووي الريبي، فيصعب بذلك على الفيروس أن “يفلت”. ومن ناحية أخرى، فقد استخدمت الدراسة الجديدةCas13  أيضًا للكشف عن مقدار الحمض النووي الريبي الفيروسي الذي تخلَّف لإصابة الخلايا. وأضاف ليانغ أن معدل القضاء على الفيروسات الذي حققته المجموعة كان “كبيرًا جدًّا”، وأوضح أنه “إذا استطعنا استهداف الفيروسات الثلاثة جميعها وتعطيلها -من حيث المبدأ- فبإمكاننا تعطيل أي فيروس.”

وأشار ليانغ إلى أن هذا المنهج، مثله في ذلك مثل أي منهجٍ آخر، له محدوديات، وتتمثل أُولاها في مسألة كيفية إدخال Cas13 إلى جسم إنسان حي لاستهداف الفيروس. هذا فضلًا عن أن الباحثين لم يُـجروا بعدُ أية دراسات على الحيوانات. وتتمثل محدودية أخرى في حقيقة أن الفيروسات سوف تطوِّر مقاومةً في نهاية المطاف. غير أن Cas13 له ميزةٌ هنا: فعندما يقطع Cas9 الحمض النووي الفيروسي، تقوم خلايا الثدييات بإصلاحه، وقد تتسبب في حدوث طفرات تجعل الفيروس أكثر مقاومةً. ولكن في حالة Cas13، لا تملك تلك الخلايا آليةً لإصلاح الحمض النووي الريبي وإدخال أخطاء قد تساعد الفيروس على الإفلات من التدمير. وحتى إذا طوَّر الفيروس مقاومة، أو وُجِد فيروسٌ جديد، فيمكن تكييف هذه الطريقة بسرعة.

يقول ميرفولد، وهو زميل دراسات ما بعد الدكتوراة في جامعة هارفارد: “إن مسألة القابلية للبرمجة تُعدُّ من أكثر الأمور إثارةً في هذا المنهج. فبمجرد التمكُّن من ذلك مع فيروس واحد، لن يصعب عليك تصميم تسلسلات مضادة لفيروس آخر، ثم ثالث، وهكذا. فضلاً عن ذلك، إذا غيَّر الفيروس تسلسله الخاص -كما هي عادة الفيروسات عند تفشِّيها أو على سبيل رد الفعل لعلاجٍ ما- فبإمكانك بسهولة تحديث تسلسل كريسبر للحمض النووي الريبي ومواكبة تطور الفيروس”.

وتتفق معه فرايجي في ذلك؛ إذ تقول: “نحن متحمسون بكل تأكيد تجاه الآفاق المستقبلية لإدخال مزيدٍ من التحسينات على هذا النظام، وتجربته على نماذج من الفئران. وإلى جانب النتائج العلاجية، يأمل الفريق التوصُّل إلى فهم أكبر لكيفية عمل الفيروسات: كيف تتنسخ، وأي أجزاء من جينوماتها هي الأهم. باستخدام مناهج مثل تلك، “يمكنك بالفعل البدء في التوصل إلى صورة أفضل فيما يتعلق بتحديد الأجزاء الأهم في هذه الفيروسات، والأهم من ذلك ما الذي يجعلها تتصرف على النحو الذي تتصرف به”.

المصدر: ساينتفك أمريكان

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى