تدريب عملي على حاسوب جوجل الكمومي

أزاحت شركة جوجل الستار عن رقاقة الجميزة، علامتها البارزة، مبرهنةً بذلك على ما تدعيه من «تفوُّق كمومي»

أقف أمام شاشة عملاقة تعمل باللمس في مختبر يشبه الجراج في منشأة جوجل في مدينة جوليتا بولاية كاليفورنيا، وأستخدم إصبعي لتحريك مربعات صغيرة تحتوي على رموز –مثلX ، وY، وH، وغيرها من الصور الرمزية الغامضة– عبر الشاشة. تمثل هذه المربعات مهماتٍ يمكن إجراؤها على بت كمومي واحد –أو كيوبت (qubit)– داخل أسطوانة فضية كبيرة مجاورة. يتسبب بعض المهمات العديدة المتاحة في قلب البِت من 1 إلى 0 (أو من 0 إلى 1)؛ في حين يتسبب بعضها الآخر في دورانه حول محوره.

أحد المربعات الأخرى المعروضة على الشاشة يكشف عن حالة الكيوبت، كما يوضحها شكل يشبه مصاصة تتحرك على المحيط الداخلي لكرة وعصاها مثبتة في المركز. وفي أثناء تحرُّكها، تتذبذب الأرقام الموجودة بجانبها بين 1.0000 و0.0000. هذه واحدة من نقاط قوة الكيوبتات؛ فليس من الضروري أن تكون الكل أو لا شيء، أي واحد أو صفر كما في البتات الثنائية، ولكن يمكن أن تشغل حالات بينهما. وتتيح خاصية «التراكب» هذه لكل كيوبت إجراء أكثر من عملية حسابية واحدة في الوقت نفسه، مما يؤدي إلى تسريع عملية الحساب بطريقة تبدو إعجازية تقريبًا. وعلى الرغم من أن القراءة النهائية من الكيوبت هي واحد أو صفر، فإن وجود كل هذه الخطوات الوسيطة يعني أنه قد يكون من الصعب -أو المستحيل- على الحاسوب الكلاسيكي إجراء العمليات الحسابية نفسها. قد تبدو هذه العملية بالنسبة لغير المتمرسين شبيهةً بالسحر؛ فبحركة من اليدين أو خَبْطَة رقيقة على الشاشة التي تعمل باللمس يتم سحب الأرنب –كما يفعل الساحر– من قبعة كمومية. وقد دعتني شركة جوجل إلى هذا المكان –بصحبة مجموعة مختارة من الصحفيين الآخرين– لإزاحة الستار عن هذا السحر؛ كي نثبت أنه ليس سحرًا على الإطلاق.

في النصف الأيمن من الشاشة، تُظهِر خطوطٌ متعرجة أشكالًا موجية تتوافق مع المهمات التي يتم تنفيذها على الكيوبتات. ويوجد بجانب هذا القسم مربع في حجم طابعة سطح المكتب، يقوم بإرسال تلك الأشكال الموجية كنبضات كهربائية عبر أسلاك إلى الأسطوانة الفضية، وإذا كانت الأسطوانة مفتوحةً فسيرى المرء سلسلة من ست حجرات، مرتبةً في طبقات مثل كعكة زفاف مزينة بأكاليل من الأسلاك مقلوبة رأسًا على عقب. يتم تبريد كل حجرة إلى درجة حرارة أقل بشكل ملحوظ من درجة حرارة الحجرة الموجودة فوقها، والطبقة السفلية شديدة البرودة؛ إذ تبلغ حرارتها 15 مللي كلفن، أي أشد برودةً بنحو 200 مرة من أعماق الفضاء الخارجي. وتقوم الأسلاك التي تمر عبر المراحل المتعاقبة بنقل إشارات التحكم على مراحل من العالم الخارجي الدافئ، ثم تعيد النتائج من الحجرة.

تلك الحجرة مفرغة ومحمية من الضوء والحرارة؛ لأنه بخلاف ذلك ستتعطل الكيوبتات الحساسة، التي تلزَمُ مَكانَها معزولةً في الظلام والبرد على رقاقة في نهاية جميع الأسلاك. يبلغ عرض كل كيوبت نحو 0.2 ملليمتر، وهو طول كبير بما يكفي لتكون مرئيةً بواسطة مجهر عادي. ولكن بعد أن يتم تبريدها وحجبها بعيدًا عن المؤثرات الخارجية، يصبح كلٌّ منها موصلًا فائقًا يسمح للإلكترونات بالتدفق بحرية، كما لو كانت ذرةً واحدة، بحيث يمكن لقوانين ميكانيكا الكم أن تحدد سلوكها.

تتسبب نبضاتٌ خفيفة من الموجات الميكرونية في اهتزاز الكيوبتات. وعندما يصل اثنان من الكيوبتات المتجاورة إلى تردُّد الرنين نفسه، فإنهما يصبحان متشابكين، وهذه خاصية أخرى لميكانيكا الكم تعني أن قياس حالة أحدهما سوف تخبرك عن حالة الآخر. تؤدي النبضات الكهرومغناطيسية عند تردُّد مختلف إلى قلب البتات، وفي هذا يقول كريج جيدني، وهو مهندس برمجيات كمومية في جوجل: إن الحاسوب الكمومي يشبه إلى حدٍّ ما صندوقًا يحتوي على مجموعة بندولات. وأقوم أنا والآخرون خارج الحجرة ممن يرسلون الإشارات إليه بسحب خيوط البندولات؛ كي نغير تأرجُحها لأداء عمليات منطقية مختلفة.

يقول فريق جوجل الكمومي إن كل هذا التبريد الشديد والاهتزاز قد مكَّن الرقاقة من تحقيق التفوق الكمومي، وهي النقطة التي يمكن فيها للحاسوب الكمومي أداء شيء لا يستطيع الحاسوب التقليدي العادي أداءه. وفي مقال نُشر هذا الأسبوع في دورية Nature –ولكن تم تسريبه عن غير قصد في الشهر الماضي على موقع ناسا على الإنترنت– يصف مهندسو جوجل تجربةً مرجعيةً استخدموها لإظهار التفوق، إذ قام برنامجهم الذي يعمل على أكثر من 50 كيوبتًا بالتحقُّق من مخرجات مولِّد أرقام كمومي عشوائي. وقال هارتموت نيفين، مدير مختبر الذكاء الاصطناعي الكمومي في شركة جوجل خلال مؤتمر صحفي بمرفق جوليتا: إن بعض النقاد شكوا من أن هذه مشكلة مفتعلة ذات تطبيق محدود في العالم الحقيقي، وأضاف: «وكذلك لم يفعل القمر الصناعي سبوتنيك الكثير سوى الدوران حول الأرض، ومع ذلك فقد كانت تلك بداية عصر الفضاء».

يوافق ديفيد أوشالوم -عالِم فيزياء المواد المكثفة المتخصص في هندسة المعلومات الكمومية في جامعة شيكاغو، والذي لم يكن مشاركًا في البحث– على أن البرنامج حل مشكلةً تَفْصِيلِيَّةً للغاية، ويضيف أن شركة جوجل لا تستطيع ادعاء أن لديها حاسوبًا كموميًّا جامِعًا؛ فمثل هذا الإنجاز قد يتطلب مليون كيوبت، ولن يتحقق قبل سنوات عديدة في المستقبل. إلا أنه يعتقد أن فريق شركة جوجل قد وصل إلى محطة مهمة، توفر للعلماء الآخرين نتائج حقيقية يمكن البناء عليها، وفي هذا يقول أوشالوم: «أنا متحمس جدًّا لهذا الأمر؛ فهذا النوع من النتائج يوفر نقطة بيانات ذات معنى وهدف».

حققت رُقاقَة جوجل للحوسبة الكمومية، التي أُطلق عليها اسم «الجميزة»، نتائجها باستخدام 53 كيوبتًا بالضبط، إذ فشل الكيوبت رقم 54 الموجود على الرقاقة. كان هدف الجميزة هو إنتاج سلاسل من الآحاد والأصفار بشكل عشوائي بحيث يكون هناك رقم لكل كيوبت، مما يؤدي إلى إنتاج سلاسل مكونة من 532 بِت (أي سلاسل بتات مكونة من حوالي 9.700199254740992 كوادريليون بِت). ونظرًا لطريقة تفاعل الكيوبتات بعضها مع بعض فمن المرجح أن تظهر بعض السلاسل أكثر من غيرها. قامت رقاقة الجميزة بتشغيل مولِّد الأرقام مليون مرة، ثم أخذت عينات من النتائج للتوصل إلى احتمال ظهور أي سلسلة معينة. وأجرى فريق جوجل أيضًا نسخةً أبسط من الاختبار على حاسوب القمة (Summit)، وهو حاسوبٌ فائِقٌ في مختبر أوك ريدج الوطني، ثم جرى استكمال هذه النتائج بالاستقراء للتحقق من مخرجات رُقاقَة الجميزة. وقد أدت الرقاقة الجديدة المهمة في 200 ثانية، في حين قدر الباحثون أن العمل الرتيب نفسه كان سيستغرق من حاسوب القمة 10,000 سنة لإنجازه.

ومع ذلك فقد قامت مجموعة من الباحثين في شركة آي بي إم، تعمل أيضًا على تطوير الحوسبة الكمومية،  بنشر نسخة مبكرة من أحد الأبحاث على موقع arXiv.org في وقت سابق من هذا الأسبوع، ذهبت فيها إلى أنه في ظل ظروف مثالية واستخدام ذاكرة إضافية، يمكن لحاسوب القمة أن ينجز المهمة في غضون يومين ونصف فقط. وقد كتب العلماء في مدونة أبحاث آي بي إم: “نظرًا إلى أن المعنى الأصلي لمصطلح «التفوق الكمومي» كما اقترحه جون بريسكيل [الفيزيائي النظري بمعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا] في عام 2012، كان يصف النقطة التي يمكن للحواسيب الكمومية عندها أداء أشياء لا تستطيع الحواسيب التقليدية أداءها، فإن هذه العتبة لم تتحقق، ومن ثم قد يكون من الأفضل عَنْوَنة إنجاز جوجل باعتبار أنه «مزية كمومية»”.

غير أن سكوت آرونسون -عالِم الحواسيب النظري في جامعة تكساس بمدينة أوستن، والذي يتعاون في بعض الأحيان مع الباحثين في شركة جوجل- يقول: إنه ليس صحيحًا حقًّا أن يقال إن التفوق الكمومي لم يتحقق، حتى لو لم يكن من نوعية النتائج الواضحة من نوعية «إرسال البشر إلى القمر».  ففي النِّهايَة تظل رقاقة الجميزة أسرع كثيرًا من حاسوب القمة، ومع ازدياد عدد الكيوبتات في رقاقة جوجل، فإن قوتها الحاسوبية ستزداد بمعدل أُسِّي. ومن شأن الانتقال من 53 إلى 60 كيوبتًا أن يعطي الحاسوب الكمومي ثقلًا حسابيًّا يعادل 33 من حواسيب القمة العملاقة، أما عند 70 كيوبتًا، فيجب أن يكون الحاسوب العملاق الكلاسيكي –الشبيه بحاسوب القمة– في حجم مدينة كي تكون له قوة المعالجة نفسها.

يشتبه آرونسون أيضًا في أن ما حققته شركة جوجل قد يكون له بالفعل بعض القيمة العملية غير المقصودة، إذ يمكن استخدام نظامها لإنتاج أرقام عشوائية مضمونة بشكل مُثبَت بواسطة قوانين الفيزياء الكمومية، وقد ينتج عن هذا التطبيق –مثلًا- كلمات مرور أقوى بكثير من قدرة البشر أو الحواسيب التقليدية على الوصول إليها.

يقول أوشالوم: «لست متأكدًا من أن الشيء الصحيح هو المجادلة بشأن «تفوقها» أو عدم تفوقها»؛ فلا يزال يتعين على مجتمع الحوسبة الكمومية أن يتفق على أفضل الطرق لمقارنة الحواسيب الكمومية المختلفة، خاصةً تلك المبنية على تكنولوجيات مختلفة. ففي الوقت الذي تَستخدم فيه شركتا آي بي إم وجوجل الموصلات الفائقة لإنشاء الكيوبتات الخاصة بهما، توجد طريقة أخرى تعتمد على الأيونات المحتجزة، أيْ ذرات مشحونة معلقة في الفراغ ومعالجة بواسطة أشعة الليزر. وقد اقترحت آي بي إم معيار قياس يسمى «الحجم الكمومي»، يتضمن عوامل مثل مدى سرعة أداء الكيوبتات للحسابات، ومدى تجنُّبها للأخطاء أو تصحيحها.

في الحقيقة فإن تصحيح الأخطاء هو ما يجب على علماء الحواسيب الكمومية إتقانه لإنتاج أجهزة مفيدة بالفعل، أي أجهزة تحتوي على الآلاف من الكيوبتات. وعند تلك النقطة، يقول الباحثون إنه يمكن لهذه الحواسيب إجراء عمليات محاكاة تفصيلية للتفاعلات الكيميائية، قد ينجم عنها أدوية جديدة أو خلايا شمسية أفضل. كما يمكنهم أيضًا بسرعة كسر رموز التشفير الأكثر استخدامًا لحماية سرية البيانات على الإنترنت.

ومع ذلك فمن أجل الوصول إلى هذا النوع من الأداء، يجب على الحاسوب الكمومي أن يكون قادرًا على تصحيح نفسه، وإيجاد وإصلاح الأخطاء في عملياته. من الممكن أن تنشأ الأخطاء عندما ينقلب الكيوبت من واحد إلى صفر تلقائيًّا، أو عندما يتحلل تراكُبه الكمومي بسبب تداخل من العالم الخارجي. حاليًّا، تدوم كيوبتات جوجل لنحو 10 ميكروثانية قبل أن تتحلل. وتقول عنها ماريسا جيوستينا، إحدى باحثات المشروع: «إن لديها عمرًا محدودًا؛ فهي هشة للغاية، وتتفاعل مع محيطها، ومن ثم نفقد المعلومات الكمومية».

تقوم الحواسيب التقليدية بتصحيح الأخطاء عن طريق الوفرة، إذ تقرر ما إذا كان البت الرقمي يعمل أو لا يعمل، لا عن طريق قياس إلكترون واحد في مكثف واحد، بل عن طريق قياس عشرات الآلاف منها. وعلى العكس من ذلك، فإن الكيوبتات احتمالية بطبيعتها، لذا فإن محاولة تجميعها معًا لإجراء قياس إجمالى واحد لن ينجح. لذا تعمل شركة جوجل على تطوير طريقة إحصائية لتصحيح الأخطاء، ويقول جون مارتينيز، الفيزيائي بجامعة كاليفورنيا بمدينة سانتا باربرا، والذي تعاون مع الشركة في تطوير رقاقة الجميزة: إن النتائج المبدئية لم تكشف حتى الآن عن أي جانب جوهري، أو مانع، يمكن أن يمنع تحسُّن عملية تصحيح الخطأ بصورة أفضل وأفضل. وعلى ما يبدو فإن العرض سيستمر.

في الوقت نفسه، سيعمل مهندسو جوجل على تحسين الكيوبتات الخاصة بهم لإنتاج أخطاء أقل، مما سيسمح على الأرجح بترابُط العديد من الكيوبتات. وهم يأملون أيضًا تقليص حجم صناديق التحكم الكبيرة التي بحجم طابعة سطح المكتب، بحيث يمكن لكلٍّ منها معالجة 20 كيوبتًا مع الدوائر المرتبطة بها، لذلك ثمة حاجة إلى ثلاثة صناديق تحكُّم لتشغيل الـ53 كيوبتًا الموجودة في رقاقة الجميزة. وإذا نما نظامهم ليصل إلى حوالي 1,000 كيوبت فإن احتياجاته من التبريد ستتجاوز سعة تلك الأسطوانات الفضية الكبيرة.

يقول جوليان كيلي، الذي يعمل على العتاد والمعمارية الكمومية في شركة جوجل: إن إعلان الشركة يُعَد إنجازًا هندسيًّا قبل أي شيء آخر، لكنه إنجاز يمكن أن يفتح مجالات غير مستكشفة. مضيفًا: «لقد أثبتنا أن الحواسيب الكمومية يمكنها أن تفعل شيئًا بالغ الصعوبة، فنحن نعمل في مَجال لم يكن أحد قادرًا على التجريب فيه من قبل». أما بشأن ما ستسفر عنه نتائج هذا التقدم -وفق قوله- «فلا نعرف ذلك بعد؛ لأننا وصلنا هنا للتو».

المصدر: ساينتفك أمريكان

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى